سورة ص - تفسير تفسير ابن عجيبة

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (ص)


        


قلت: {إذ قال}: متعلق بيختصمون، أو: بدل من {إذ} قبله، أو: باذكر. والحق: فمن نصبه، فعلى حذف فعل القسم، كقولك: الله لأفعلن، أي: أقسم بالحق، فحذفت الباء ووصل الفعل به، ومن رفعه؛ فمبتدأ، أي: الحقُّ مني، أو: خبر، أي: أنا الحق. والحق الثاني: مفعول أقول، والجملة: معترضة بين القسم وجوابه، وهو: {لأملأن}.
يقول الحق جلّ جلاله في تفسير الاختصام المذكور: {إِذ قال ربُّكَ للملائكة} حين أراد خلق آدم، {إِني خالق بشراً من طينٍ}، وقال: {إِنِّى جَاعِلٌ فِى الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُواْ أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30]. والتعرُّض لعنوان الربوبية، مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام لتشريفه صلى الله عليه وسلم، والإيذان بأنَّ وحي هذا النبأ إليه تربية وتأييد له. والكاف وارد باعتبار حال الآمر، لكونه أدلّ على كونه وحياً منزلاً من عنده تعالى، كما في قوله تعالى: {يَا عِبَادِىَ الَّذِينَ أَسْرَفُواْ...} [الزمر: 54] إلخ، دون حال المأمور، وإلاَّ لقال: ربي؛ لأنه داخل في حيز الأمر. {فإِذا سوَّيتُه} أي: صوَّرْتُه بالصورة الإنسانية، والخلقة البشرية، أو: سويت أجزاء بدنه، بتعديل أعضائه، {ونَفَخْتُ فيه من روحي} الذي خلقته قبلُ، وأضافه إليه تخصيصاً، كبيت الله، وناقة الله. والروح سر من أسرار الله، لطيفة ربانية، سارية في كثيفة ظلمانية، فإذا سرت فيه حيى بإذن الله، أي: فإذا أحييته {فَقَعُوا} أي: اسقطوا {له}، وهو أمر، مِن وقع، {ساجدين} قيل: كان انحناء يدلّ على التواضع، وقيل: كان سجوداً لله، أو سجود تحية لآدم وتكريماً له.
{فسجد الملائكةُ كلُّهم أجمعون}، كلّ للإحاطة، و{أجمعون} للاجتماع، فأفاد أنهم سجدوا عن آخرهم جميعاً، في قوت واحد، غير متفرقين في أوقات. وظاهر هذه الآية وما في سورة الحِجْر: {فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ فَسَجَدَ الْمَلاَئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر: 29، 30] أن الأمر بالسجود كان تعليقاً، لا تنجيزياً، فأمرهم بالسجود قبل أن يخلقه، بل حين أعلمهم بخلقه، فلما خلقه سجدوا ممتثلين للأمر الأول، وظاهر ما في البقرة والأعراف والإسراء والكهف: أن الأمر كان تنجيزياً بعد خلقه، والجمع بينهما: أنه وقع قبل وبعد، أو: اكتفى بالتعليقي، كما يقتضيه الحديث، حيث قال له بعد نفح الروح فيه: «اذهب فسلِّم على أولئك الملائكة، فسلّم عليهم، فردُّوا عليه وسجدوا له» والله تعالى أعلم بغيبه.
{إِلا إِبليسَ استكْبَرَ} أي: تعاظم عن السجود، والاستثناء متصل إن قلنا: كان منهم، حيث عبد عبادتهم، واتصف بصفاتهم، مع كونه جنياً، أو: منقطع، أي: لكن إبليس استكبر، {وكان من الكافرين} أي: صار منهم بمخالفته للأمر، واستكباره عن الطاعة، أو: كان منهم في علم الله.
{قال يا إبليسُ ما منعك أن تسجدَ} أي: عن السجود {لِما خلقتُ بيديَّ}، بلا واسطة أب ولا أم، امتثالاً لأمري، وإعظاماً لخطابي، ولَمَّا كانت الأعمال تُباشر في الغالب باليد، أطلقت على القدرة. والتثنية لإبراز كمال الاعتناء بخلقه عليه السلام، المستدعي لإجلاله وإعظامه، قصداً إلى تأكيد الإنكار، وتشديد التوبيخ، وسيأتي في الإشارة بقية الكلام في سر التثنية. قال له تعالى: {أَسْتَكْبَرْتَ}، بهمزة الاستفهام، وطرح همزة الوصل، أي: أتكبرت من غير استحقاق، {أم كنت من العالين} المستحقين للتفوُّق، أو: أستكبرت عن السجود ولم تكن قبل ذلك من المتكبرين، أم كنت قبل ذلك من المتكبرين على ربك؟
{قال أنا خير منه}، ولا يليق أن يسجد الفاضل للمفضول، كقوله: {لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 30]، وبيَّن فضيلته في زعمه بقوله: {خلقتني من نارٍ وخلقته من طينٍ}، يعني لو كان مخلوقاً من نار لَمَا سجدتُ له؛ لأنه مخلوق مثلي، فكيف أسجد لمَن هو دوني؛ لأنه طين، والنار تغلب الطين وتأكله، ولقد أخطأ اللعين، حين خَصَّ الفضل بما من جهة المادة والعنصر، وغاب عنه ما من جهة الفاعل، كما أنبأ عنه قوله تعالى: {لِما خلقتُ بيدي}، وما من جهة الصورة كما نبّه عليه قوله تعالى: {ونفخت فيه من روحي}، وما من جهة الغاية، وهو ما خصَّه به من علوم الحكمة، التي ظهرت بها مزيته على الملائكة، حتى أُمروا بالسجود، لما ظهر أنه أعلم منهم بما تدور عليه أمر الخلافة في الأرض، وأن له خواص ليست لغيره.
{قال فاخرجْ منها}؛ من الجنة، أو: من زمرة الملائكة، وهو المراد بالأمر بالهبوط، أو: من السموات، أو: من الخِلقة التي أنت فيها، وانسلخ منها، فإنه كان يفتخر بخلقته، فغيّر الله خلقته، فاسودّ بعدما كان أبيض، وقبح بعدما كان حسناً، وأظلم بعدما كان نورانياً. {فإِنك رجيم} أي: مرجوم، مطرود، من كل خير وكرامة. أو: شيطان يُرجم بالشُهب.
{وإِن عليك لعنتي}؛ إبعادي من الرحمة، وتقييدها هنا، وإطلاقها في قوله: {وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ} [الحجر: 35]؛ لأن لعنة اللاعنين من الثقلين والملائكة أيضاً من جهته تعالى، وأنهم يدعون عليه بلعنة الله وإبعاده من الرحمة، {إِلى يوم الدين}؛ إلى يوم الجزاء والعقوبة، ولا يُظَن أن لعنته غايتها يوم الدين، ثم تنقطع، بل في الدنيا اللعنة وحدها، ويوم القيامة يقترن بها العذاب، فيلقى يومئذ من ألوان العذاب، وأفانين العقاب، ما ينسى به اللعنة، وتصير عنده كالزائد. أو: لَمَّا كان عليه اللعنة في أوان الرحمة، فأولى أن يكون عليه اللعنة في غير أوانها، وكيف ينقطع، وقد قال تعالى: {فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [الأعراف: 44] وهو إمامُهم؟
{قال} إبليسُ: {رَبِّ فأَنظِرْنِي}؛ أمهلني وأخِّرني، أي: إذا جعلتني رجيماً فأمهلني ولا تمتني، {إِلى يوم يبعثون} أي: آدم وذريته للجزاء بعد فنائهم.
وأراد بذلك فسْحته لإغوائهم، وليأخذ منهم ثأره، وينجو من الموت بالكلية؛ إذ لا موت بعد البعث، {قال} تعالى: {فإِنك من المنظرين إلى يوم الوقتِ المعلوم}، وهو وقت النفخة الأولى، ومعنى معلوم أنه معلوم عند الله، لا يتقدم ولا يتأخر، وورود الجواب بالجملة الاسمية مع التعرُّض لشمول ما سأله لآخرين، على وجهٍ يُشعر بكون السائل تبعاً لهم في ذلك، دليل واضح على أنه إخبار بالإنظار المقدر لهم أزلاً، لا إنشاء لإنظار خاص به، قد وقع إجابة لدعائه، أي: إنك من جملة الذين أخرت آجالهم أزلاً، حسبما تقتضيه حكمة التكوين.
{قال فبعزَّتك لأُغْوِينَّهم أجمعين}، أقسم بعزّة الله، وهو سلطانه وقهره على إغواء بني آدم، بتزيين المعاصي والكفر، {إِلا عبادَكَ منهم المخلصِين}، وهم الذين أخلصهم الله للإيمان به وطاعته، وعصمهم من الغواية، أو: الذين أخلصوا قلوبهم وأعمالهم لله في قراءة الكسر.
{قال} تعالى: {فالحقّ والحقَّ أقولُ} أي: أقسم بالحق ولا أقول إلا الحق، أو: الحق قسَمي وأقول الحق: {لأملأَنَّ جهنمَ منك}؛ من جنسك، وهم الشياطين، {وممن تَبِعَكَ منهم}؛ من ذرية آدم {أجمعين} أي: لأعمرنَّ جهنم من المتبوعين والتابعين أجمعين، لا أترك منهم أحداً.
الإشارة: التجلي بهذا الهيكل الآدمي فاق جميع التجليات، وصورته البديعة فاقت جميع الصور، ولذلك لم يقل الحق تعالى في شيء أنه خلقه في أحسن تقويم إلا الآدمي، وذلك لأنه اجتمع فيه الضدان، واعتدل فيه الأمران؛ الظلمة والنور، الحس والمعنى، الروحانية والبشرية، القدرة والحكمة. ولذلك قال تعالى فيه: {لِما خلقت بيدي}، ولم يقله في غيره، أي: خلقته بيد القدرة ويد الحكمة. فالقدرة كناية عما في باطنه من أسرار المعاني الإلهية، والحكمة عبارة عما في قالَبه من عجائب التصوير، وغرائب التركيب، ولذلك كانت معرفته أتم، وترقِّيه لا ينقطع، إن كان من أهله، وراجع ما تقدّم في قوله تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِى ءَادَمَ} [الإسراء: 70].
وقال القشيري بعد كلام: فسبحان الله! خلق أعَزَّ خَلْقِه من أذّلِّ شيءٍ وأَخَسِّه. ثم قال: ما أودع عند آدم لم يوجد عند غيره، فيه ظهرت الخصوصية. اهـ.


يقول الحق جلّ جلاله: {قل ما أسألُكُم} على تبليغ الوحي أو على القرآن {من أجْرٍ} دنيوي، حتى يثقل عليكم، {وما أنا من المتكلِّفين} أي: المتصنِّعين بما ليسوا من أهله، وما عرفتموني قط متصنعاً حتى أنتحل النبوة، أو أتقوّل القرآن، وعنه صلى الله عليه وسلم: «للمتكلف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، ويتعاطى ما لا ينال، ويقول ما لا يعلم».
{إِن هو}: ما هو {إِلا ذِكْرٌ}: وعظ من الله عزّ وجل {للعالَمين}؛ الثقلين كافة، {ولتعلمُنَّ نبأَهُ}؛ نبأ القرآن، وصحة خبره، وما فيه من الوعد والوعيد، وذكر البعث والنشور، {بعد حين}؛ بعد الموت، أو: يوم بدر، أو القيامة، أو: بعد ظهور الإسلام وفشوه. وفيه من التهديد ما لا يخفى. ختم السورة بالذكر كما افتتحها بالذكر.
الإشارة: تقدّم مراراً التحذير من طلب الأجر على التعليم، أو الوعظ والتذكير، اقتداء بالرسل عليهم السلام. وفي الآية أيضاً: النهي عن التكلُّف والتصنُّع، وهو نوع من النفاق، وضرب من الرياء. وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه نادى منادي النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم اغفر للذين لا يدعون، ولا يتكلفون، ألا إني بريء من التكلُّف، وصالحوا أمتي» وقال سلمان: «أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ألاَّ نتكلف للضيف ما ليس عندنا!». وكان الصحابة رضي الله عنهم يُقَدِّمون ما حضر من الكسر اليابسة، والحشف البالي أي: الرديء من التمر ويقولون: لا ندري أيهما أعظم وزراً، الذي يحتقر ما قدم إليه، أو: الذي يحتقر ما عنده فلا يقدمه. اهـ. وبالله التوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلّى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6